كتبت: نور خالد
أن يكتشف الإنسان جسده ليس بالأمر السهل، وفي مجتمعات محافظة وتقليدية تتشبع الروح قبل العقل بما تحمله الثقافة والوعي الجمعي عن الجسد، وتلك الأعباء الثقيلة التي ترسخ لنمط بعينه حيال رؤية الجسد والتعامل معه، تجعل من اكتشاف الجسد وتقبله من الأمور الصعبة بل والأقرب إلى المستحيلة في كثير من الأحيان.
في مصر تشكو الكثيرات من التحرش والاعتداءات الجنسية، ولكن الغالبية لا يتطرقن كثيرًا إلى الأزمة التي يخلقها التحرش في علاقة المرأة بجسدها. فالجسد الأنثوي حين يكون مصدرًا أو سبب التهديد تكره الكثيرات أجسادهن. حين تسمع الفتيات والنساء التعليقات الفجة على أجسادهن الأنثوية ترتبط تلك الأجساد بالأذى والوجع.
صديقة روت لي أكثر من مرة كيف أن التعليقات على صدرها جعلتها تكره ذلك الجزء من جسدها الذي تسبب لها مرارًا وتكرارًا في الأذى.. كانت المرة الأسوأ حين كانت لا تزال مراهقة خلال سيرها إلى المدرسة. فجأة ظهر شخص من شارع جانبي وسار عكس اتجاهها وأمسك بصدرها وجذبه أثناء سيره وكأنه يريد اقتلاعه. لم تتصور كيف يمكن أن يحدث ذلك، وظلت حبيسة بيتها أسبوعًا كاملًا لا ترغب في الخروج للشارع وتحاول إلغاء ملامح الأنوثة التي ظهرت على شكل جسدها لكن دون جدوى. وظلت حتى شارفت على الأربعين من عمرها تكره صدرها الكبير.
صديقة أخرى ارتبطت مؤخرتها في اللاوعي بسخافات التحرش.. وباتت تكرهها وتكره جسدها بسبب مؤخرتها كبيرة الحجم التي تلفت الانتباه إليها كلما سارت في الشارع. ذات مرة خلال استقلالها مترو الأنفاق وفي ذروة التزاحم للخروج من باب المترو فجأة شعرت بأصابع تغوص في مؤخرتها، والتفتت وسط الزحام لتجد أكثر من خمسة أشخاص يمكن أن يكون أيًا منهم هو من انتهكها بهذا الشكل. لم تنتهي المرارة التي شعرت بها ذلك اليوم رغم مرور أكثر من عشر سنوات. وأكثر ما يشعرها بالألم هو أنها لم تتمكن من معرفة المعتدي ولا حتى توجيه السباب إليه. أنفقت الآلاف من الجنيهات لتخسيس تلك المنطقة من جسدها وتمكنت من ذلك نسبيا ورغم هذا لا تزال تكره جسدها وتشعر بأنه سبب رئيسي لمعاناتها.
صديقة ثالثة قالت إنها كانت تكره جسدها لأن الجميع من حولها دفعوها لذلك. فهي ومنذ بدأ جسدها يتغير وتصبح آنسة كانت تعليقات المحيطين بها تحبطها وتدفعها لكراهية جسدها بسبب وزنها الزائد. الوزن الذي أصبح أقل خلال فترة الدراسة الجامعية لكنه زاد مرة أخرى وبدأت تكره نفسها. لاحقًا وبعد معاناة ومزيد من الوعي بدأت هذه الصديقة تستوعب أنه في جميع الأحوال سواء حين كانت نحيفة أو حين يزداد وزنها لن يرحمها الناس من ألسنتهم وانتقاداتهم. قررت عدم الالتفات لتلك الآراء السلبية وبدأت تحب جسدها وتختار ما يريحها من ملابس بدلا من اختيار نوعيات تجعله يبدو أكثر نحافة لتروق الناس. أصبحت أكثر راحة وسعادة أخيرًا، رغم علمها بأن وزنها أكثر من المتوسط النموذجي الذي يجري الترويج له.
من قصص الصديقات يتضح أن العلاقة بالجسد يحكمها إلى حدٍ بعيد الموروث السائد، ورؤية الآخرين لأجسادنا، وتأثير تلك الرؤية وذلك الموروث على اللاوعي. هذا التأثير الذي يُشكل سلوكياتنا الواعية ويؤثر عليها دون إدراكٍ منّا بوجوده ولا بكيفية تشكله داخلنا.
الموروث المتعلق باحتقار الجسد من ناحية، أو بوضع معايير شبه مستحيلة لتنميط معايير الجمال من ناحية أخرى، دفع إلى استهداف الجسد الأنثوي؛ لتوجيه طاقة العنف الذكورية. هذا الاستهداف هو ما يدفع النساء إلى الانفصال عن أجسادهن وخلق نوعٍ من “الانفصال” بين المرأة وجسدها.
نفس الموروث يدفع الكثير من النساء إلى الإحباط بعد عدد لا نهائي من مرات الفشل في الوصول إلى “الشكل المثالي” للجسد الأنثوي الذي يجري الترويج له. والنتيجة تكون كراهية الشكل الحالي للأجساد وأحيانا الحقد على من يتمتعن بالنمط المثالي حسب ما يجري الترويج له في الثقافة السائدة.
هذا التأثير قد يحدث بطريقة عكسية، حيث ينتج نمطًا من النساء اللاتي يستخدمن أجسادهن كوسيلة للحياة والكسب. ليس بالعمل في تجارة الجنس ولكن كأسلوب حياة في التعامل مع الأزواج. النسق الذكوري لرؤية الجسد الأنثوي يخلق نمطين مختلين من النساء، الأول: الكارهات لأجسادهن. والثاني: المستفيدات من أجسادهن، ليس بهدف الحياة السعيدة لذواتهن ولكن بهدف إمتاع الذكور للحصول على بعض المميزات اليومية التافهة.
وبين النمطين، تسهم الثقافة المحافظة الرافضة لأي نوع من الثقافة الجنسية في تشكيل شريحة كبيرة من النساء دون معلومات سواء عن الجنس أو عن أجسادهن. هذا القصور الكبير في الوعي هو السبب الرئيسي الذي ينتهي بهن وبشركائهن إلى علاقات تعيسة وفاشلة، أو يسودها الاستغلال فتكون أقرب إلى تجارة الجنس منها إلى الزواج.
تلك النوعية من العلاقات بدت واضحة في رواية الصديقة عزة سلطان “تدريبات على القسوة” التي تفتح أبوابًا عديدة للنقاش حول الجسد وعلاقتنا بأجسادنا ورؤية المجتمع وما توارثناه. أجد بابًا لإعادة المناقشة حول تعبير “مومس”، من هي أو هو المومس؟ وآخر لدائرة الاستغلال التي تعاني منها النساء.
بطلة الرواية قررت قلب الآية فبدلًا من استغلال الآخرين لجسدها لتفريغ شهواتهم والاستمتاع، قررت هي “استخدام” جسدها لاستغلال الرجال في الحصول على ما تريد منهم. ومن التساؤلات الأخرى التي أثارتها الرواية بداخلي، هو تلك العلاقة بين رؤيتنا لأنفسنا وكيف تنعكس على رؤية الآخرين لنا وتعاملهم معنا.
هذا بخلاف التساؤلات اللامتناهية المتعلقة بفكرة الجنس والمتعة نفسها سواء بين الأنواع المختلفة أو الجنس المثلي، ورؤية المجتمع لهذا وذاك، والسؤال الأكبر يبقى هو كم بالمائة من مجتمعاتنا يعرفون بالفعل ميولهم/ميولهن الجنسية؟ وكم من النساء يمكنهن الاستمتاع بالجنس فعليًا؟ وكيف يؤثر الشكل الخارجي وطريقة اختيار الزي على رؤيتنا لأنفسنا ورؤية الآخرين لنا؟
أتذكر أنني ذات مرة طرحت سؤالًا على مجموعة من الصديقات عن كيف تعرفتن على ما يبعث في أجسادكن الشهوة أو المتعة الجنسية ومتى؟ أغلب المجموعة لم ترد على سؤالي -ربما خجلًا وربما تشككًا في نواياي- لكن إحداهن قالت ببراءة: “فيه مشهد ف فريندز، بتتكلم عن أماكن الإثارة عند الستات، أنا بشوف المشهد ده ومبفهموش، نفسي أعرفهم “. تلك الصديقة نموذج لعشرات الآلاف من النساء اللاتي لا يكرهن أجسادهن ولا يحببنها لكنهن لا يعرفنها بالأساس.
يزداد تعقد علاقة النساء بأجسادهن في حالة الإصابات التي تحدث تشوهات، كسرطان الثدي، حين تضطر المرأة إلى إزالة ثديها. في تلك الحالات غالبًا ما تختل الحالة النفسية تمامًا ويندر وجود دعم حقيقي وكافٍ من الزوج. فهناك أزواج يقررون الطلاق لمجرد مرض الزوجات بالسرطان. وآخرون ينفصلون فور إزالة المرأة لأحد ثدييها. وآخرون يستمرون في الزواج ولكن يتعاملون مع الزوجة وكأنها “إنسان ناقص” ويتجنبون النظر إلى جسدها وبالتالي يكرسون إحساسها بالعجز والنقص.
في الواقع لم أر نموذجا مثاليًا للعلاقة بين الرجل والمرأة التي قاومت سرطان الثدي وانتصرت عليه إلا في فيلم “the burning plain”. في مشهد البطلة حين صارحت عشيقها للمرة الأولى بأنها ترفض التعري الكامل أمامه لأنها لا تحب “هذا الجزء من جسدها”. كان رد فعله هو النظر مليًا ثم تقبيل مكان الجرح صعودًا إلى شفتيها، وكأنه لا شيء على الإطلاق. تعبيرات وجهها حين بدأ في تقبيل مكان جراحة إزالة الثدي كانت مؤثرة للغاية مزيج من الألم والامتنان والخوف.
حين تحدثت معه في مشهد لاحق عن رغبتها في إجراء جراحة تجميلية أخبرها أنه يحبها أيًا كان شكلها، وأضاف أنها قاتلت الموت وانتصرت عليه، لذا فالندبة التي تركها جرح عملية إزالة الثدي “جميلة” ولا ينبغي محوها.
المعاناة أساسها التعامل مع الجسد وفق المعايير المتوارثة.. فالأنثى لابد وأن يكون لها ثديان ومؤخرة مستديرة ومهبل ورحم، وإذا أصيب أي من تلك الأعضاء بمرض ما، ينظر إليها المجتمع باعتبارها “ليست أنثى بالقدر الكافي”.
تلك الثقافة هي ما تؤثر أيضًا على الذكور في المجتمعات المختلفة، فيتفاخرون بعضلاتهم وحجمها وأعضائهم التناسلية وحجمها، وإذا أصيب أحدهم بمرض تناسلي يشعر بأنه “ناقص الرجولة”.
التعرف على الأجساد والتوافق معها أصبح ضروريًا لمواجهة تلك الأنساق المشوهة، فالأمراض والحوادث تصيب الجميع، وبتر الساق أو اليد لا يقل خطورة ولا ألمًا عن مشكلة في الجهاز التناسلي للرجل أو المرأة. لكن المجتمعات تتعامل بتعاطف أكبر مع من يفقد ساقه مقارنة بمن يصاب بمشكلة جنسية. ويتعاطفون مع الذكور أكثر من تعاطفهم مع الإناث.