تفشل التجارب السريرية في كثير من الأحيان في الوصول إلى نتائج تراعي الفروق الجندرية، على الرغم من حقيقة أن العديد من الأدوية تسبب آثارًا ضارة على النساء أكثر من الرجال. وأفاد تقرير نُشر في المجلة الطبية الأسترالية في ديسمبر 2019 أنه يتم تجاهل النساء في التجارب والتقارير الطبية. ودعا التقرير إلى المزيد من البحوث الطبية الأسترالية؛ لتشمل البيانات الخاصة بالجنسين، حيث أن عدم مراعاة التأثيرات المختلفة التي قد تحدثها العقاقير على الرجال والنساء يُضعف نوعية الرعاية المقدمة للنساء.
التقرير الصادر بعنوان “الجنس والنوع الاجتماعي في البحوث الصحية: تحديث السياسة لتعكس الأدلة” أشار إلى أنه ثبت تاريخياً عبر مجموعة واسعة من المجالات الصحية أن الباحثين جمعوا البيانات من الرجال وتم تعميمها لتشمل النساء أيضًا. وكانت النتيجة هي التحيز الجنساني في الطب، مما يؤدي إلى نتائج سيئة للنساء بخصوص الأمراض الشائعة بين كل من الرجال والنساء ونقص المعرفة بالظروف التي تؤثر بشكل رئيسي على النساء وحدهن.
فعلى سبيل المثال، من بين 10 أدوية طبية سحبتها إدارة الغذاء والدواء الأمريكية من الأسواق بين عامي 1997 و2000، اتضح أن ثمانية منها تسببت في مخاطر صحية أكبر على النساء. وأوضحت دراسة أجريت عام 2018 أن هذا كان نتيجة “تحيزات ذكورية خطيرة في الأبحاث الأساسية قبل السريرية والسريرية”.
في أستراليا أيضا وجدت تقرير نُشر في المجلة الطبية الأسترالية عام 2018 أن النساء لا يخضعن للفحص بقدر ما يخضع الرجال لمخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. وأوضح أن النساء اللائي عانين من نوبة قلبية خطيرة حصلن على نصف الاهتمام الذي تم تقديمه للرجال في المستشفيات الأسترالية وكان معدل الوفيات بعد ستة أشهر من خروجهن ضعف نظيره بين الرجال الذين مروا بنفس الحالة المرضية.
التمييز ضد النساء في مجال الأبحاث الطبية ليس وليد اليوم لكن تاريخيًا تم التعامل مع النساء باعتبارهن نسخة أدنى وأقل تطورًا من الرجال، ولهذا تم استبعاد النساء من إنتاج المعرفة الطبية والعلمية، وانتهى الأمر بتصميم نظام للرعاية الصحية “يصنعه الرجال من أجل الرجال”.
في بدايات القرن العشرين، تم اكتشاف نظام الغدد الصماء التي تنتج الهرمونات. وبالنسبة للعقول الطبية، كان هذا يمثل اختلافًا آخر بين الرجال والنساء، بالإضافة إلى الرحم الذي اعتبروه السبب الرئيسي في جميع أمراض النساء. ومع ذلك، استمروا في التعامل بناءً على الاعتقاد بأن جميع الأجهزة والوظائف الأخرى ستعمل بنفس الطريقة لدى الرجال والنساء، واعتبروا أنه ليست هناك حاجة لدراسة النساء.
ولمواجهة هذا الواقع الرديء، وخلال الثمانينيات من القرن الماضي، شكلت مجموعة من العالمات في الولايات المتحدة جمعية للنضال من أجل إجراء أبحاث صحية أفضل على النساء. الآن تعرف هذه الجمعية باسم “جمعية أبحاث صحة المرأة”، وتعاونت الباحثات مع بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي للفت الانتباه إلى التناقضات في البحوث الطبية وتأثير ذلك على صحة المرأة.
أظهرت دراسة أصدرتها الجمعية الأمريكية للجامعات (AAUW) أن التحرش الجنسي له عواقب طويلة الأجل على النساء العاملات. ووجد البحث أن سوء السلوك الجنسي يضعف صحة المرأة الجسدية والعقلية، ويقلل من خيارات عملها، ويحد من فرص تطورها المهني ويجبرها على ترك القوة العاملة. وخلص التقرير إلى أن هذه النتائج السلبية تقلل من دخل المرأة مدى الحياة وتعزز الفجوات بين الجنسين وأجر التقاعد مع مرور الوقت.
إذا كانت هذه هي الحال بالنسبة للتحرش في العمل أو في الأماكن العامة فبالتأكيد التأثير يكون أكثر سوءًا إذا تم في مكان تلقي الخدمات الطبية والصحية وقد يتسبب في امتناع المرأة عن السعي للحصول على الخدمات الصحية التي تحتاج إليها. ومن هنا يجب أن تشمل أية سياسات على آليات تسهم في خلق ثقافة لا تتسامح مع التحرش الجنسي، وإتاحة إجراءات متعددة لتقديم الشكاوى. وتدريب المدراء والمسئولين على التعامل بإيجابية مع شكاوى التحرش الجنسي في مكان العمل بشكل عام وفي أماكن تقديم الخدمة الصحية بشكل خاص.
وبخلاف التحرش الجنسي، تمثل الحقوق الجنسية والإنجابية أزمة، حيث تفتقر إلى التوافق العالمي مما يترك النساء معرضات لاستمرار العنف والتمييز ضدهن في مجال الصحة وخاصة الصحة الإنجابية. فخلال قمة نيروبي التي انعقدت في الفترة من 12 إلى 14 نوفمبر 2019، تعهدت الحكومات بمكافحة والقضاء على العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي والممارسات الضارة ضد النساء والفتيات خلال العقد القادم. وكررت بعض الحكومات تعهداتها خلال قمة القاهرة للصحة والسكان عام 1994 والتي كانت رائدة في معالجة الروابط بين السكان والحد من الفقر والتنمية المستدامة من خلال وضع حقوق واحتياجات وتطلعات الأفراد، وخاصة النساء والفتيات، في صلب التنمية المستدامة. وجاءت قمة نيروبي بعد ربع قرن للتذكير بالوعود السابقة وإعادة الحياة لتعهدات مؤتمر القاهرة.
تعهد البيان الختامي لقمة نيروبي بالقضاء على وفيات الأمهات تماما، وتلبية كل احتياجات النساء فيما يتعلق بتنظيم الأسرة ومنع الحمل القضاء تماما على العنف القائم على النوع الاجتماعي والممارسات الضارة ضد النساء والفتيات – بحلول عام 2030، الموعد النهائي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ورغم ذلك يبدو الطريق طويلًا جدًا، فإيقاف وفيات الأمهات يتوقف على تقديم خدمات صحية متكاملة لكل النساء، وهو غير متاح ولا توجد سياسات واضحة لتحقيقه، كما أن العنف ضد النساء يتم ارتكابه داخل عيادات التوليد سواء عنف جسدي أو لفظي، وفي أماكن تقديم الخدمات الصحية، هذا بالطبع بخلاف المنزل والشارع سواء التحرش أو العنف اللفظي أو التمييز وغيرها من أشكال العنف. كما أن وسائل منع الحمل غير متاحة بسهولة ولا توجد سياسة واضحة يجري تطبيقها فعليًا تجعل الوصول إلى وسائل منع الحمل سهلًا على كل امرأة وفتاة في مرحلة الخصوبة. الطريق طويل جدًا بسبب استمرار الاتجار بالفتيات في صفقات تأخذ على شكل “زواج” عرفي مبكر.
وفيما صارعت بعض الدول لاستعادة المسار من جديد نحو تنمية مستدامة ورعاية صحية حقيقية وشاملة، عارضت 11 دولة منها مصر التركيز على “الحقوق الإنجابية” خلال قمة نيروبي. وكانت الدول المعارضة لبيان نيروبي هي الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل وبولندا والمجر وروسيا البيضاء ومصر وهايتي وليبيا والسنغال وأوغندا.
وأشارت مصر -كواحدة من الدول التي وقعت على البيان المعارض لبيان نيروبي- إلى أنها “لا تدعم” الإشارات الواردة في الوثائق الدولية إلى المصطلحات والتعبيرات “الغامضة” مثل الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية (SRHR)؛ لأنها قد تستخدم للترويج لممارسات مثل “الإجهاض”. ويمكن القول بأن القاهرة 2019 انتكست عن قرارات القاهرة 1994. أي أن الرؤية الرسمية لمصر بخصوص الحقوق الإنجابية للنساء صارت أكثر تشددًا مقارنة برؤية مصر منتصف التسعينات. ولعل هذا التراجع جاء بتأثير الهجوم الشديد الذي شنته باستمرار جماعات الإسلام السياسي على تلك الحقوق وعلى من يعلن تبنيها.
وأكدت الدول الـ 11 “المبادئ الأساسية الرئيسية” لمؤتمر القاهرة “لتحقيق أعلى النتائج من الصحة والحياة والكرامة والرفاهية. ويشمل ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الإنجابية، اهتمامات الصحة الذهنية، الرعاية الصحية الأولية، تنظيم الأسرة الطوعي والمستنير، تقوية الأسرة والفرص التعليمية والاقتصادية المتساوية للنساء والرجال “.
ولعل السبب الرئيسي وراء معارضة الدول الـ11 لمخرجات قمة نيروبي، كان سياسيًا بالأساس وفي المقام الأول وتم استخدام “رفض الترويج للإجهاض” كحجة للرفض. ففي بيانهم قالت الدول الموقعة ومن بينها مصر: “كنا نقدر المزيد من الشفافية والشمولية في التحضير للمؤتمر، خاصةً فيما يتعلق بمعايير مشاركة المجتمع المدني”. على الرغم من أن برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في القاهرة تم التفاوض عليه وتنفيذه مع جميع أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أنه لم تتم استشارة سوى حفنة صغيرة من الحكومات بشأن تخطيط وطرائق مؤتمر قمة نيروبي 2019. لذلك، لا يمكن اعتبار هذه القمة جهد حكومي جماعي، كما أنها ليست نتيجة لعملية توافق في الآراء. ونتيجة لذلك، لا ينبغي اعتبارها معيارية.
بعد حركة “مي تو” ظهر جليًا أن التحرش والاعتداءات الجنسية والعنف ضد النساء في أماكن العمل كلها عوامل تعوق تطور النساء والوصول إلى المساواة وتكافؤ الفرض في سوق العمل. وانطلاقًا من الإيمان بأهمية توفير بيئة عمل آمنة، وفي أكتوبر 2019، أطلقت “مايا مرسي” رئيسة المجلس القومي للمرأة (NCW) برنامجًا بعنوان “تعزيز العمالة المنتجة والعمل اللائق للنساء في مصر والأردن وفلسطين”. البرنامج تدعمه الوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي (Sida) ويتم تنفيذه بشكل مشترك بين منظمة العمل الدولية (ILO) ومنظمة الأمم المتحدة للمرأة. ويهدف إلى مساعدة النساء على الاستفادة من الفرص الناتجة عن تحسين الوظائف، والأمن في أماكن العمل، والمساواة في الوصول إلى برامج وآليات التطوير المهني، والحماية الاجتماعية للأسر، وتحسين فرص التنمية الشخصية والاندماج في المجتمع.
هذا الاهتمام إذا ما تم إدماجه مع السياسات الرسمية للدولة سيكون له أثر كبير على حماية كل النساء العاملات، بما في ذلك العاملات في مجال الصحة من طبيبات وممرضات وعاملات إداريات.. إلخ. ومن المتوقع أن يساهم البرنامج في تحقيق 12 إصلاحًا على الأقل في الإطار التنظيمي أو القانوني الذي يستجيب للمساواة بين الجنسين ويعززها. وسوف تشمل الإصلاحات دعم الحكومات وأرباب العمل والعمال ومنظمات المجتمع المدني والإعلام والأوساط الأكاديمية من أجل تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة بشكل متزايد، ومساعدة زيادة 2-5 في المائة من النساء في المناصب الإدارية في القطاعين العام والخاص. علاوة على ذلك، يتوقع البرنامج حدوث تغيير إيجابي بنسبة 10 في المائة على الأقل في التكافؤ بين الجنسين في التوظيف في القطاع الخاص، حيث تلتزم 87 شركة جديدة على الأقل بتنفيذ سياسات المساواة بين الجنسين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتطبيق مبادئ تمكين المرأة ودعم دور العمل التجاري للنهوض بالمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة في مكان العمل والسوق والمجتمعات.
ويمثل البرنامج تقارباً قوياً بين منظمة العمل الدولية وهيئة الأمم المتحدة للمرأة سيتم من خلاله ضمان إدراج مبادئ العمل اللائق في إطار التمكين الاقتصادي للنساء. وبالتالي لن يمثل البرنامج مجرد تطبيق لاتفاقيات منظمة العمل الدولية المتعلقة بالمساواة بين الجنسين في عالم العمل فحسب، بل سيكون بمثابة آلية لوضع معايير وإرشادات عملية حول كيفية تحقيق ذلك، سواء كانت الحماية القانونية أو المكافأة العادلة أو الإجازة الوالدية أو السلامة أو الصحة أو رعاية الطفل أو الحماية من العنف والمضايقات.
وفي إطار الاهتمام بالمساواة في مجال العمل أيضا وقعت مصر، في سبتمبر 2019, على خطاب إعلان نوايا بشأن “جسر الفجوة بين النساء والرجال في سوق العمل”. وخلال زيارتها للولايات المتحدة للمشاركة في قمة المنتدى الاقتصادي العالمي حول آثار التنمية المستدامة، وقّعت وزيرة السياحة المصرية “رانيا المشاط” خطاب نوايا لتنفيذ مشروع “سد الفجوة بين الجنسين” في مصر، بالتعاون مع المجلس القومي للمرأة والمنتدى الاقتصادي العالمي. ويهدف هذا المشروع، وهو الأول من نوعه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص للقضاء على الفجوة بين الجنسين.
يهدف المشروع إلى زيادة مشاركة المرأة في سوق العمل، وتشجيع المزيد من النساء على تولي مناصب قيادية اقتصادية، وجسر الفجوة في الأجور، والمساهمة في تعزيز جهود مصر في مجال تمكين المرأة إقليمياً ودولياً. وهي الأهداف التي تتسق مع الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة المصرية 2030، والتي تنص على أنه بحلول عام 2030، ستصبح المرأة المصرية شريكا رئيسيًا ونشطًا في تحقيق التنمية المستدامة.