كوثر الردّادي- تونس

بقلم: كوثر الردّادي- تونس

انطلاقا من قول المفكّر والكاتب التونسي محمود المسعدي، “الأدب مأساة أو لا يكون” نقدّم المجموعة القصصية “الدمية” لصاحبها السوري حسام قلعجي، الصادرة عن دار هن للنشر سنة 2024 والمؤلّفة من 137 صفحة تضمّ سبع عشرة قصّة من النوع القصير والمتوسط. هي المجموعة الثانية للكاتب بعد مجموعته الأولى ” أن تقفز من نصِّ” عام 2023 عن نفس الدار.

اكتشفتُ المجموعة صدفة في معرض الكتاب بتونس أفريل/نيسان 2024. شدّني بداية العنوان وصورة الغلاف: دمية تقليدية صغيرة من الصوف وديعة توحي بمشاعر الطفولة ملأى فرحا وسكينةً، فأغلفة الكتب ورسوماتها/ لوحاتها أسرار وهي أوّل ما يجذب القارئ بعد العنوان وأحيانا قبله، لكن هذه المجموعة التي توحي ظاهريا بالوداعة تفاجئك بمجرد أن تفتحها وتبدأ بقراءة أولى القصص “الأريكة”، والتي كُتب جزء منها على ظهر الغلاف، بمشاعر صادمة وقاسية تتراكم وتكبر مع كل قصة.

يمكن تصنيف هذه المجموعة ضمن ما يعرف بأدب المهجر؛ فقد كتبها صاحبها من خارج سوريا وهو الفارّ، كجلّ السوريين منذ 2011، من الدمار والحرب والاستبداد والقمع والظلم، لكن مغادرة الوطن أو برح المكان لا يخلّصك من الذكريات والوجع، بل تحمله معك أينما رحلت. وهو ما حصل تقريبا مع عشرات الكتّاب السوريين الذين كتبوا وجع الوطن من خارج الوطن مجبرين كانوا أو باختيارهم. ولئن لقت كتاباتهم في القصة وغير أجناسٍ طريقها للنشر والتوزيع خارج الأراضي السورية فإنّ بعضها لم يكن بالإمكان توزيعه داخلها، ومنها هذه المجموعة التي تغصّ بالوجع والظلم والتعذيب والموت والقتامة في محاكاة لمعجم النظام السياسي في سوريا طيلة 50 سنة حتى أواخر السنة المنقضية.

عناصر القصّ والأسلوب

أسلوب القص كانت فيه مراوحة بين صوتين داخل صوت واحد: داخلي زمن القص وخارجي زمن التذكّر واستحضار الماضي، القريب منه والبعيد، باعتماد تقنية الفلاش باك والاسترجاع إما لتفسير الحاضر أو مقارنته.

اللغة لا تخلو من السخرية والتلميح والتعرية في شكل صور كاريكاتورية، مثل صورة السياسيين في قصة “الإنقاذ الأخير” كيف يتقافزون ويتسابقون أمام الكاميرات زاعمين حرصهم على إنقاذ العالقين تحت الأنقاض ” حتى اضطر الكاميرامان أن يطلب منهم بلطف التخفيف من سرعتهم لكي يلحق بهم” مقارنة بالأهالي الذين ” انقضّوا بإخلاص على الجدران تحطيما وضربا مطلقين من أفواههم الجافة عبارات الطمأنة للعالقين في الأسفل”. نجد كذلك ترميزا بين السطور، مثلا الضفدع الذي تقوم زوجة السجّان/المحقق (في قصة الدمية) بتشريحه مع تلاميذها ليس سوى رمزية للأشخاص الذين تعرّضوا للتعذيب قبل وبعد موتهم، تقول الزوجة: “عرفت فيما بعد أنه كان عليّ أن أقتل الضفدع أولا ثم أبدأ بتشريحه”. ويقول زوجها المتلذّذ بالدم: “أعتقد أن تشريحه وهو حي كان سيفي بالغرض أكثر لأن التأثيرات الحركية لحياته في آخر رمقها ستكون أعظم تأثيرا، “فالاستعارات والمجازات التي وظّفها الكاتب نأت بالمجموعة عن المباشرتيّة والسرد المستهلك لتفتح بذلك مجالات مختلفة للتأويل.

الأماكن وردت مغلقة: الزنزانة/ الغرفة/ مكتب التحقيق/ النفق/ المصنع/تحت السرير/ ممر ضيّق، يوحي معظمها بالوحدة والخوف والاختناق والتخفي والتكتم والظلام وبالتالي الظلم، أما بالنسبة للإجابة عن سؤالي: أين؟ ومتى؟ فقد وردت جلّ القصص إن لم تكن كلها دون تحديدٍ واضحٍ أو ضبطٍ معين للزمكان اللّذين تدور فيهما الأحداث، وقد يفسّر ذلك إما بمراوغة للنظام والرقابة أي في شكل تفاهم ضمنيّ بين الكاتب وقارئه: كلانا يعلم أين ومتى ومن المقصود، أو بترك القصص مفتوحة على الزمان والمكان اللّذين يختارهما القارئ أيّا كان زمانه ومكانه فقد تلامس تجربة إحدى شخصيات القِصَصِ تجربته بشكل أو بآخر. وهذا يعطي المجموعة بعدا إنسانيا أرحب من حدود السرد، وهي السمة الأهم للأدب كشكلٍ من أشكالِ التعبير عمن نعرفهم ومن لا نعرفهم وتقاطعات الألمِ والحُلمِ بيننا وبينهم.

المعجم ورمزياته

الخيط الناظم للقصص هو المعجم المشترك بينها، وقد كانت الحرب عنصره الأساس بكل مكوناتها وتداعياتها وما رافقها من صور للدمار والخراب والتهجير والتشريد واليُتْمِ، وقبلها كانت هنالك حرب أخرى حامية الوطيس اجتماعيا غير معلنة أو متكتم عليها سياسيا لكنها ظاهرة للعيان رغم محاولات التلميع الفاشلة إعلاميا، حرب أعلنها النظام على الأصوات والأقلام واللغة والعقول والطير والحجر إن لم تمتثل له ثم أطلق يده بعلانية أكثر للقتل، يقول في ذلك الراوي بالصفحة العشرين: “في الماضي كان الموت يتسلل في الليل بين البيوت.. يتفقد الأسرة ثم يبحث عن مبتغاه.. كان موتا ملتزما بالمواعيد والجداول ولكن منذ انتفض الناس وخرجوا إلى الشوارع تحوّل إلى مسخ فوضوي يضرب خبط عشواء”.

إذن نجد حضورا طاغيا لمعجم الموت والحرب: قتل/ قنص/ اختفاء/ رصاص/ جنازة/ جثث/ ضحايا/ أنقاض/ دبابة/ مدرّعة… فعبارات مثل: الشمس، النور، البحر، العصافير، الأشجار، السماء، الحب.. وغيرها من العناصر التي توحي بالحياة كانت تأمل لها الشخصيات أو تتخيّلها كمحاولاتِ هروبٍ وقتيّ على درب أمنيات الخلاص.

الشخصيات بين الهامش والقوة:

تتوزع شخصيات المجموعة بين شرائح عمرية واجتماعية متنوعة، فنجد: الطفل والشاب والكهل والمسن والرجل والمرأة والحيوان أيضا. بعضها هامشي مسالم لا يكاد يلاحظه أحد يعيش خارج بقعة الضوء لتنتهي حياته بإرادة السّرْد داخلها مستحضرا أضواء متخيّلة؛ مثل شخصية “بوكجون” البوابيري الذي كان يعيش كفافه مع ذاكرة مهترئة راضٍ حتى ثارت في نفسه رغبة قديمة بالتمثيل، هو المحب للفن، بعد كواليس تصوير فيلم بجانب محله. أخرجته الأجواء السينمائية من رتابته لدرجة تداخلت الأحداث في رأسه فظن أن طلق النار العشوائي والقتل والضحايا الذين سقطوا متأثرين بدمائهم أمام عينه ورأسه المهشّمة كان جزءًا من تصوير الفيلم! “أراد أن يسألهم إذا ما كان قد نجح في تأدية دوره.. في حين راح مطر خفيف يهطل على رأسه المفتوح صابغا الرصيف بلون أحمر حقيقي”. فكأن بالكاتب يحاول تجميل القبح، قبح لحظة الموت قتلا لرجل سبعيني جعلها تأخذ بعدا سينمائيا بمزج لحظة الموت الحقيقي مع كواليس التصوير.

نجد نوعا آخر من الشخصيات يقرّر مصيره السردي بنفسه مثل شخصية “المقامر” الذي كان ضعيفا مهزوما، مكتئبا من روتين حياته اليومي لكنه يفتح مساحات للحلم والخيال يسافر بها خارج واقعه وبؤسه المحلي. تتراء له تلك المخارج في عالم القمار بأضوائه المغرية التي تغذي غريزة الربح لديه، فيتحوّل لشخص آخر يصل به حبه للمال حدّ تجريد جثث المهاجرين التي لفظها البحر من أي شيء ثمين كان بحوزتها قبل الغرق (نقودا، هواتف جوالة، أكسسوارات..).  هذه الشخصية وإن ظهرت في البداية كضحية لليومي واللا معنى، فهي نموذج لفئات اجتماعية واسعة ما تنفكّ تبحث عن كيفيات للغنيمة وللخلاص أيّا كان نوعها أو مدى تأثيرها على المصلحة العامة خصوصا في حالات الفوضى والحرب (السرقة، استغلال ضعف وخوف الناس اقتصاديا ونفسيا وابتزازهم، العمالة والمخابرة الداخلية والخارجية.. وغيرها).

بعضها الآخر قوي مسيطر وقد تجده مخيفا حتّى، مثل شخصيات المحقق والمعلمة والأب، غير أنها تعاني من هشاشة ما بداخلها تظهر على شكل قوّة وحب للسيطرة.

تقاطعات المتخيل والحقيقي

قد تبدو الصبغة السياسية طاغية على مواضيع القصص لكنها أيضا اجتماعية بامتياز وما السياسي فيها سوى رمزية أو إشارة ضمنية لأسباب خراب الأحوال والعلاقات داخل المجتمع بأنواعها واستفحال الجريمة وتراجع القيم (خيانة/ طمع/ استغلال/قمار/ قتل/ خطف/ تخلٍّ/ أنانية..) تمظهرت هذه العبارات إما حدثا رئيسا للقصص أو صفات في الشخصيات التي نجد بعضها يرمز في تجلٍّ واضح للسلطة والنظام (المعلمة/ المحقق/ رب العمل/ زوج الأم..) ومدى تأثير النظام والحرب على العلاقات الأسرية (تفكك/ تهجير/ ضياع واختفاء/ يتم/..)  ابتداءً من قصة “الأريكة” التي يبدو فيها الأب (مخبِرا/ كاتب تقارير سابق) رغم مرضه وعجزه مازال مسيطرا ومتغطرسا وعنيفا مع أفراد أسرته محافظا على تقديسه لخطب “الرئيس الواحد” التي تبثها “القناة الواحدة” ويحفظها بوفاء. يظهر الأب دائما جالسا على أريكته حتى توفّي فوقها في تقاطعٍ مع صورة كرسي الحكم الأبدي الذي لا تنتهي سيرورته سوى بالموت. ثم مرورا بالزنزانة والمقبرة في قصة “الجنازة” حيث تبرُز أشنع ممارسات النظام التي طالت اللغة وسرقت الحروف من أصحابها كما هو مجسّد بقصة “سارة واللغة”، وهي أطول قصة في المجموعة بصفحاتها الثلاثة عشر، كيف تُحْدِق عبارات سياسية مثل ” فلان إلى الأبد” بأحدهم وتحاصره حتى في التعبير عن حبه لحبيبته محاولا تفادي تلك العبارة والتخلّص من معنى الأبدية غير أنها تسيطر عليه وتحاصره بجنون يقوده للانتحار.

نجد قصص أخرى غارقة في واقعيتها مثل قصة “أنسولين” التي تصوّر الألم حتى الموت في ظل انعدام الأدوية ومحاولة توفيرها برحلة عبر الأنفاق، وهي صورة تجسد معاناة كل الرّازحين تحت الحروب وما يعيشونه من حالات لا إنسانية (مجاعة، مرض..) أيّا كان بلدهم والزمن الذي دقت فيه ساعة الخراب عقاربها عليهم لتقضّ مضاجعهم وتشتّت جمعهم.

وأنت تقرأ قصص هذه المجموعة مثل قصة “الجنازة” تظن أنها متخيلة في جزء منها لكن الصور والشهادات التي تناقلتها أغلب المنصات والمواقع بعد سقوط نظام الأسد تؤكّد ما حصل من تعذيب وما تنام عليه الزنازين والمعتقلات من أسرارٍ وحكايات موجعة، فتدرك أن القصة مع تعريتها للحقيقة قد لطّفتها باستعاراتها وصبغَتْها بمجازها ولغتها الأدبية مقارنة بالواقع الفظيع. يصف الراوي بالقصة المذكورة الزنزانة بأنها، “صغيرة بمساحة ميت طولا وفتى يحتضر عرضا. الميت يشغل مساحة أربع بلاطات كاملة أما المحتضر فإنه يتكوّر على نفسه ولا يأخذ أكثر من بلاطتين ونصف وكأنه في بطن أمّه” (ص17)، أما عن أسباب الموت فيقول: “كان معظمهم قد ماتوا إثر حادث أليم، لم يذكروا شيئا عن الرصاص والقنابل والصواريخ، ولم يحدّدوا تاريخ انغراز السكاكين وحراب البنادق في الأحداق، أو انشراط المعصم كخرقة بعد ساعات طويلة من التعليق بالسقف” (ص21)

أمّا عن شخصية المحقق في قصة الدمية، التي تحمل اسم المجموعة ككل، فليست شخصية متخيّلة أو هلامية بل هي من صلب واقع السجون والمعتقلات. تحملنا بتناقضها إلى عوالم طالما شغلت الأذهان مثل حياة الجلاّدين الاجتماعية، وتساؤلنا: كيف يعود الجلاد إلى بيته؟ كيف يستقبله أطفاله؟ تجيب هذه القصة عن بعض استفهاماتنا بتصوير الكاتب لهذه الشخصية خارج العمل وتحديدا في حفل عيد ميلاد طفلته وهي خير مناسبة يمكن فيها تبيان التناقضات التي تعيشها هذه الشخصية. فبعد مسرح الدماء الذي يتركه الجلاد خلفه يخرج لشراء هدية لابنته ويقول للبائع ” أريد شيئا أكثر دفئا”. بالتالي لم تكن شخصية المحقق/ الجلاد في الحقيقة بعيدة كليا عن خيالاتنا فنجدها: متناقضة، كاذبة، متلاعبة، ” تظن زوجتي أنني أعمل في الأرشيف مع الأوراق والأختام. سألتني مرة عن تلك الرائحة الغريبة التي تسكن قميصي فزعمتُ على الفور أنها رائحة حبر جديد” فهي شخصية متوترة، مضطربة، تلاحقها أصوات المعذبين وصرخاتهم “…صراخ هستيري يحفر في الرأس ثقوبا عميقة، ذبذبات متناقضة من أصوات مختلطة تضغط على الأذنين بشكل مؤلم”.

قصة “أب طبيعي” يرمز فيها الأب إلى القائد أو الحاكم من بيده السلطة والحكم، وذلك الحلم الضمني بأب/ حاكم حقيقيّ يبحث عنه الطفل بطل القصة في سوق للآباء فيجد أنّ “الكثير من الآباء رؤساء بطريقة ما.. هو لا يريد أبا يكرهه الناس ولا يستطيعون قول ذلك له” بل يحلم بأب صادق يُحبّه الناس لعدله.

تُقفل المجموعة بقصة “الألبوم” ذات البعد الوجودي بتصويرها للقلق والصراع الأبدي للإنسان مع الذكريات والحنين التي قد يعيق أحيانا أحد طرق النجاة وهي المغادرة/الرحيل، وبقول بطل القصة في ذلك ” لكي يمضي أحدنا إلى النقطة التالية عليه ألا يترك شيئا خلفه..”. اختار الكاتب أن تتغلب الشخصية الخيالية العائدة من الموت عن مخاوفها وتنجح في الخلاص بالأخير، فاتحا بذلك أبوابا للأمل ربما والانعتاق رغم القتامة والأمل الضئيل.

Tags:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

دار هنّ elles للنشر والتوزيع