“هذه الدمية من بورتلاند!”
أخبرتني البائعة العجوز في صباح يوم الأحد حيث يقام السوق الشعبي للخردوات. قالت هذا لتسترع انتباهي. فاهتممتُ واقتربتُ. رفعتْ لي الدمية بحرص وهي تنفض لها ملابسها: هذه المسكينة قطعت مسافة طويلة. سألتُها: من جاء بها إلى كيل؟ أجابتني وهي تتناول مشطاً وتسرّح شعر الدمية: نزحتْ معي بعد الحرب، تزوجتُ ألمانياً واصطحبتها في الرحلة. فهمتُ. تبدو رائعة. هل لي أن أعرف لماذا يبيع المرء أشياء كهذه؟ توترت السيدة، راحت تصلح ياقة الدمية، وتربط حذاءها، ثم مسحت وجهها بقطعة قطن وكأنها تجهزها للزفاف. وضعتها بين يدي كمن يمدد طفلاً في حجر انسان، ثم قالت: اثنا عشر يورو فقط. بإمكانك غسل ملابسها وشعرها أيضاً يا سيدتي. بدت المرأة مصممة على توديع الدمية، لا تود إعادتها لطاولة البيع. أخرجتُ المال وأنا أفكر في هذه الدمية الحسناء الحزينة أين سأضعها.. ردت لي السيدة المال المتبقي، ثم قالت وهي تربت على ظهر الدمية: إنها هدية من أبي لأمي، ماتا كلاهما، وأنا احتفظت بها لأتذكرهما، لكنني قريباً سأموت. مَن سيعتني بها بعد ذلك؟ ———- “الدمية من بورتلاند” “الدمية من بورتلاند” تجلس الدمية ساهمة على حافة النافذة، مصنوعة من البورسلان، عيناها زجاجيتان، شعرها ذهبي قصير، فمها يكاد يتكلم، بفستانها الأسود المخمل بنظرة عينيها الناطقة، بعد كل هذا الوقت، تفكر ربما أن تعود إلى بورتلاند، أو تسافر معي من جديد إلى أرض أخرى. تحمل التاريخ وألسنة البلدان. تتذكر أهوال الحرب، تسترد صور النزوح، تتداولها دموع النساء اللاتي سافرن معها، تسمع النواح مع كل نعي لمفقود، ترى البيوت المتهدمة، الاطفال الموتى، الأراضي المحترقة، اصوات المدافع، بشاعة الأمراض، سموم الجوع والفاقة، صور متوالية السواد، عرفتها جاكلين حق المعرفة. لكن الأحوال تتغير، تبتسم لها الدنيا، مع أن الوقت تأخر على السعادة، فصاحبتها تكبر وتتخلى عنها، وتعرضها للبيع في سوق الأحد. تأتي الدمية إلى بيتي، نعاملها كلعبة، رائحة طعام مختلفة، لغة لم تطرق سمعها من قبل، حنانٌ لا يتسع لغير ذوات الأرواح، وخوف من الدمى التي تحمل تاريخاً معها.
تجلس الدمية على النافذة طوال النهار، لا يحدثها أحد، لا يضعها في حجره مخلوق، ثم إذا جنّ المساء، أسدلنا عليها الستار، كي تنام في المكان الجديد وحدها..
لا أدري بماذا تفكر جاكلين الآن، ولا ماذا تفعل، لأنني لم أحتمل وجود دمية بشرية على نافذتي، فوهبتها لصديقة تعشق الدمى، لعلها تصنع لها تاريخا، يمتد بجاكلين أعواما أخرى، تجارب أخرى، سعادة مفقودة أخرى.