كان الوحیدَ الذي یَحرصُ على أن یُعلمَني العزف، لم یقبل أعذاري یوماً لحاجتي اللَّعبَ مع أقراني الذین أراهم وأُحادثهم دون أن یراهم الآخرون.
أتذكر عندما أخبرته عنهم،كنتُ أبكي بشدةٍ لأن أحدَهم قرر أن يغادر المكان!.
سألني جدي عنهم، فأخبرتُهُ عن خجلِهِـمُ الشديد، وأنهم لا يحبون الظهور.
أنا فقط من أراهم ويُظهرون أنفسَهم لي.
برقَت عيناه.. وكادتا أن تغادرَا وجهَه.
أتذكر بأن الطقسَ كان حاراً مليئاً بالرطوبة، وبأن ستائرُ أمي البیضاءُ لم تَـعُد تُجدي نَفعاً منذ فترةٍ طويلة.
تصبب جبینُـهُ عرقاً وارتعَشتْ یداهُ القویتانِ وهو یحملني لیُجلسَني فوق رجليه، ثم خرج صوتُهُ مختلفاً عما اعتدْتُه منه:
_ كم عددهم؟
_ثلاثةٌ یا جدي . . . ثلاثة.
تجمدت ملامحُهُ في فزعٍ شديدٍ أربَكَني، كان جدي دائماً يرى بقلبهِ ما أراه بعيني، كان جدي يُكملُ القطعةَ الناقصةَ التي أضاعَها الجميعُ منذُ أن وُلِدت.
تدارَكْتُهُ سريعاً قبلَ يضيعَ مني هو الآخر:
_أنت تعرفُهُم يا جَدي، أليسَ كذلك؟
جَدي.. أنت تصدقني؟ صدقني يا جدي لقد كانوا يلعبـ …..
وقبلَ أن أُكمِل
سحبَ القوسَ والكمان، وشد الأوتار على یدي، وقال لي:
- اعزف
رفعت عيني إلى عينيهِ مندهشاً، وأشَرتُ إلى طاولةٍ قريبةٍ متوسلاً:
_ كان هنا یا جدي، هو من كسر المِزهريةَ هذا الصباح.
وضع جدي ذراعه خلف ظهري ليُقِيمَهُ على استقامَتِه، وكأنه يُعيدُ ترتيبَ فقراتِ عموديَ الفقري مرةً أخرى.
قلت له:
_ لماذا لا يأكلون معي يا جدي؟ ألا یُعجبُهم طعامي؟ أخبرتُ أمي مراراً أنَّ هذا الطعامَ لا يُعجبُني، لكنها لم تُعِرني انتباهاً كعادتِها.
ودون أن ينظرَ إلى وجهي، يُكمل جدي رسمَ جسدي، ليجعلَني وكأنني الكمانُ فيه هيئتِه،
ثم يستطردُ مبتسماً:
_أنت والكمان.. كیانٌ واحد، شُـدَّ أصابعَك على القوس جيداً، وساوِ الذراعَ بالكتف، الرُّسغُ هو ركیزتُكَ الأساسية.
ثم ثبتَني وثبتَ الكمانَ تحت ذقني وضغط على صدري فـآلَـمَـتني عظامُهُ لِوَهلة، وأردَفتُ قائلاً في يأسٍ مؤلم:
_ جدي.. إذا كانوا يحبون زيارتي كلَّ يوم، فلماذا يرحلونَ؟ لماذا يرحلونَ يا جدي؟
هدَأَت ملامحُهُ بمجردِ أن شاهد استقامتي مع الكمانِ وكأننا جزءٌ لا یتجزأ.. فلَم يحدثُ أن رآنا أحدُهُم إلّا واستحالَ عليه أن یعرفَ مَـن مِـّنــا یحملُ الآخر.
قال جدي وهو يتنفسُ الصُّعَداء:
_اعزف آخرَ لحنٍ علمتُكَ إياهُ يا بُنَي.
وضعت عینيَ بین عینیه، وتنهدتُ بیأس بلوغِ النهايات، وعزفت لحناً لم أسمعْهُ من قبل.
كانت عیناهُ مُثبتتانِ على الأوتار تتنَـقَّلُ بینها في خِفَّـة، وأنا أنفذ حركاتِهِما بدقةٍ بالغة:
إن ارتفعَتا ارتفعْت، وان انتصفَتا انتصفْت وان ارتخَتا أطَلْت. كان الصوت مرهقا مؤلِماً لكِـلَینا.
هرَبَت مني بعضُ دموعٍ انسالَت على جَـسَدِ الكمانِ تماماً كما انسالت على جَـسَدِ جدي.
جدي . . . الذي فارقَنا في ديسمبر الماضي.