الأيام السبعة
اليوم الأول
ساعة الحائط تدق السادسة.
ساعة واحدة تفصلني عن موعد الطبيب النفسي للجلسة الثالثة التي كنت أتمنى في قرارة نفسي أن تكون الجلسة الأخيرة.
أرغمتني صديقتي، مَلكَ، على الذهاب إلى هذا الطبيب، وحدثتني كثيراً عن مهارته في العلاج وكيف أن شقيقها تحسنت حالته معه.
لن أنكر أن بمرور الجلسة الثانية كنت أشعر بكثير من التحسن. فعلاً هذا الطبيب مميز وله مَلَكة من نوع خاص، أو قد يكون هذا هو المعتاد والطبيعي في حال الأطباء النفسيين. لا أدري، فهذه أول مرة أرتاد فيها عيادة طبيب نفسي، لكنه بسهولة وسلاسة شديدتين استطاع أن يخرج مني اعترافات وأحاديث لم أصرح بها قبل حتى لنفسي، وإن هذا لإنجاز كبير!
في الجلسة الثانية طلب مني أن أكتب كل شيء عن نفسي وعن تفاصيل يومي حتى لو كانت تبدو تافهة ولا تهم، لكن لابد أن أكتب.
قال حدثيني عن أكبر خذلان بحياتك أو أكبر صدماتك وأكثر شيء تحبينه أو تكرهينه.
- أنا لست كاتبة، لا أعلم كيف أكتب.
- لا أطلب منك كتابة أدبية. اكتبي بأي طريقة مريحة لك، المهم أن لديكِ مهمة يومية تقومين بها وهي أن تكتبي لـ بسمة عن بسمة، اتفقنا؟
لم يترك لي الاختيار ، فأنا في مرحلة متأخرة من الاكتئاب ولا شيء يُحدث فرقاً معي. كان يقول ما يقول، ثم لا أعلم إن كنت أنصت له وأقول أنا جملة واحدة: “هل أستطيع أن أعود كما كنت؟ هل تستطيع أن تجعل مني شخصاً أفضل، قادراً أن يعود لعقله مرة أخرى؟”، ثم من جديد، أبكي وأردد: “لا أريده أن يتركني، لا أريد أن يكون هو من تركني، أريد أن أسترد قوتي مرة ثانية لأذهب أنا عنه”. ينظر لي بهدوء وسكينة، ويسترسل في حديثه الذي قاطعته، ويقول: “بمجرد أن تنتهي من مهمتكِ اليومية التي طلبتها منكِ أعدكِ بأنكِ لن تتذكري هذا الشخص الذي سلبكِ قوتكِ النفسية”. ثم تنتهي تلك الجلسة.
أنا بسمة فتاة في آخر العقد الثالث من عمري، الحقيقة أنني سأكمل الأربعين هذا الشهر، لكنك ما إن تراني، ستظن بأنني لا أتجاوز العشرين عاماً. ملامحي هادئة، جسدي رياضي، وأراني جميلة بما يكفي.
توفيت أمي وأنا في الخامسة عشرة. كان توقيتاً سيئاً جداً كي يحدث الأمر، وكان الأسوأ أنها وأبي كانا على خلاف مستمر وجفاء عاطفي دام لسنوات، استقطعتها هدنة ماكرة من أبي حين رحل عن البيت.
أتذكر جيداً حين جلس ليخبرنا أنا وأمي بأنه اتخذ قراراً بتركنا والعيش لوحده لبعض الوقت، وأن هذا لا يعني أنه تخلى عنا، بل إنه بحاجة الآن لهذه المساحة في حياته. لا أستطيع القول بأنني تفاجأت بما فعله أبي، لكن ما فاجأني فعلاً كان رد فعل أمي وكيف كانت نظرات الرهبة والانكسار حين أخبرها بما سينوي فعله، الحقيقة يكاد يكون هذا القرار المفاجئ من أبى السبب في وفاتها بعد سبعة أشهر فقط من انتقال أبي إلى بيت خاص.
توفيت أمي بعدها بشهور قليلة، كانت صدمة لي ولأبي نفسه، حتى إنه عاش أغلب عمره يحاول أن ينكر أن موتها يؤنب ضميره، أحياناً كان يكرر هذا الإنكار على مسامعي.
يقول لي أنتِ عنيدة مثل أمكِ، كانت عنيدة حتى في المرض. كنت أعلم أن لديها مشكلة ما في الضغط، طلبت منها كثيراً أن نبحث في الأمر لنطمئن، لكن بلا جدوى، لم يكن الإقناع يجدي شيئاً معها حتى حدث ما حدث.
في كل مرة كان يتلو تلك الجملة الأخيرة فتتغير ملامح وجهه وينعقد جبينه بشكل آلي ثم تزوغ عيناه ويشرد لدقائق. في ليلة وفاة أمي تغير فيّ شيء، لا أعلم تحديداً ما هذا الشيء الذي يرحل منا مع رحيل الأشخاص الذين نحبهم، ولكن بالتأكيد نحن الأحياء نفقد شيئاً منا حين نفقدهم، أتذكر هذا اليوم جيداً.
ذهبتُ إلى السوق التجاري القديم في الشارع الخلفي لمنزلنا، لا أعلم كيف ركضت له ووصلت عند المحل، كان هناك عم إبراهيم، رجل كبير السن ولكنه بصحة جيدة، جسده رياضي ممشوق، ولا تراه يشرب القهوة أو الشاي، له روتين خاص: كوب اللبن الساخن صباحاً واليانسون وحبات التمر بجانبه طوال الوقت. يجلس كالمعتاد على ماكينة الخياطة، محني الظهر، ملامحه مقتضبة، لا يتكلم ولا يرد التحية إلا قليلاً، وكأن العالم كله يعاديه.
أمي كانت تقصده باستمرار، فقد كانت لا تحب شراء الأزياء الجاهزة، وكانت تقول بأن “الليدي” بحق يجب أن ترتدي شيئاً مميزاً بها، لا يرتديه الآخرون، شيئاً من ذوقها الخاص. أمها هي الأخرى اعتادت أن تأتي لعم إبراهيم، فهو أمهر ترزي بهذه المنطقة، وأكثرهم حنكة، والأجمل فيه أنه رجل رزين لا يتحدث كثيراً ولا يرهقها في أحاديث لا تعنيها.
حين وصلت إلى باب المحل كانت أنفاسي عالية من الركض إليه طوال الطريق، رفع رأسه لي وكأن ظهوري أزعجه، وبعينه زاغ يبحث خلفي عن أمي:
– أين أمكِ يا بسمة؟ موعدها للاستلام كان البارحة.
– أمي توفيت، وليس لدي شيء أسود أرتديه. هل تستطيع أن تسلمني ذاك الرداء الأسود الذي كنت تصنعه لأمي.
اقشعر جسد عم إبراهيم. أقسم أنني رأيت جسده كله ينتفض حزناً. في عمري كله الذي عرفته فيه لم أره شخصاً حنوناً أو فيه سمات الطيبة، فقد كان يؤدي عمله جيداً وكانت معاملته تليق بزبائنه طالما هم ملتزمون بقوانين عمله ومحله الصغير.
همّ بالوقوف ثم تحجر في مكانه ثوانٍ، ثم اقترب مني وأخذ رأسي إلى صدره وقبّله، وعزاني، وأعطاني الفستان، وقال إنه يناسب مقاسي، ثم سكت عن الحديث وعاد إلى مقعده وعيناه لا تفارقانني، رأيت في ملامحه قيود الحزن والمفاجأة، يقول كيف ماتت؟ هي ما زالت صغيرة، وأنتِ ما زلت صغيرة لتترككِ، لكنني تركته وأخذت الثوب وعدت لأجد أبي على رأس الشارع ينتظرني فزِعاً، والدموع تغرق عينيه، أخذني الى حضنه وانهار بالبكاء.
كان فراق أبي مفاجئاً لها، لأن أمي لم تكن رومانسية أو رهيفة المشاعر، وكان هذا فرقاً أساسياً بينها وبين أبي. فأمي كانت متحفظة في إظهار مشاعرها، لم تكن امرأة جياشة المشاعر أو متلهفة على تبادل العواطف. كانت عملية جداً حتى في طريقة تربيتها لي وتخطيطها للحياة. كانت مدرّسة تربية فنية بإحدى مدارس اللغات، رفضت الإنجاب بعدي، وانتابتها نوبة اكتئاب ما بعد الولادة، ثم كانت تردد بعدها ذلك المبرر بأنه من غير اللائق أن تذهب للعمل وهي حبلى، فلم تكن تنوي التخلي عن وظيفتها، وكان هذا سبباً للخلاف بينهما أيضاً، فأبي تمنى أن يكون له ولد آخر، وكانت له تلك النظرة أحياناً حين يطمئن على نومي ليلاً أو حين نذهب لنزهة، كأنه يرسل لي اعتذاراً.. “بسمة كم أتمنى لو كان لديك شقيق؛ أخ أو أخت، كي تأنسي به ويصير سنداً لكِ بالدنيا وصديقاً”. كان أبي نفسه بلا شقيق أو أنيس. كان وحيداً هو الآخر مثلي. وكان أبي على نقيض أمي تماماً، ذا مشاعر من نوع خاص، من السهل أن ترى في عينيه الحب والعاطفة، كأنه يطير لا يسير على الأرض. كان يتجادل مع أمي لأنها صارمة ومتجمدة في أحاسيسها بعض الشيء حتى في غضبها لا تتحدث لا تواجه ولا تحاور ويظل هو يصعد بانفعالاته إلى أقصى درجة وهي صامتة تكتفي بأنها لا تود الحوار فيجن جنونه.
يحب أبي أن يفضي بأفكاره وانفعالاته للخارج ويصرح بها كما هي، إنما أمي كانت تتحكم في انفعالاتها بثبات يجعله يفقد سيطرته.
كان يقول لي: يا بسمة حين نتوقف عن الحب نموت. حين نتوقف عن تبادل الحب وممارسته تموت أرواحنا، لو توقفنا عن الحب سنتوقف عن سماع الموسيقى، ونتوقف عن الاستمتاع بفنجان القهوة صباحاً، سيتوقف شغفنا بالعطر الذي نحبه، ستتولد مشاعرنا ونصبح بلا معنى، ستصبح قلوبنا باردة مثل فصل الخريف في أقصى بلاد الشتاء بلا شمس وريحها ثلج أسود.
لم يكن أبي شاعراً إنما كان إنساناً يتنفس الحب والمشاعر، وأظنني ورثتُ عنه هذه الجينات، ومن ناحية أخرى كنت أقاوم تلك الجينات بشدة فتصبح النتيجة كارثية أغلب الوقت.
ورشة هنَّ
مروة أبو زيد
2022